الیوم الدولی للاعنف 2 تشرین الأول/أکتوبر
الیوم الدولی للاعنف 2 تشرین الأول/أکتوبر
تحتفل الأمم المتحدة بالیوم الدولی للاعنف فی الثانی من أکتوبر/تشرین الثانی فی ذکرى میلاد المهاتما غاندی زعیم حرکة استقلال الهند ورائد فلسفة اللاعنف.
وقد أعلن السید أناند شارما، وزیر الدولة الهندی للشؤون الخارجیة، وهو یعرض قراراً فی الجمعیة العامة باسم الدول المشارکة فی تقدیمه وعددها 140 دولة، أن اتساع نطاق المشارکة فی تقدیم القرار وتنوعها یعبران عن الاحترام العالمی للمهاتما غاندی وللأهمیة الدائمة لفلسفته. وقال، مقتبساً من أقوال الزعیم الراحل نفسه، "إن اللاعنف هو أقوى قوة فی متناول البشریة. فهو أعتى ن أعتى سلاح من أسلحة الدمار تم التوصل إلیه من خلال إبداع الإنسان".
بعثة الهند الدائمة لدى الأمم المتحدة عقدت فعالیة بهذه المناسبة بدأت بالوقوف دقیقة صمت تکریما لذکرى من فقدوا حیاتهم فی الهجوم الذی وقع فی مدینة لاس فیغاس الأمیرکیة وأدى إلى مقتل أکثر من 50 شخصا وإصابة ما لا یقل عن 200 بجراح.عرض فی الفعالیة بعد ذلک مقطع من فیلم وثائقی یتم إعداده فی الوقت الراهن حول اللاعنف والمهاتما غاندی.
"المهاتما غاندی ولد فی مثل هذا الیوم قبل 148 عاما. وکرس حیاته لاستخدام اللاعنف من أجل إحداث التغییر. وبعد نحو 70 عاما من وفاته، مازال المهاتما غاندی مصدرا للإلهام."
ویستخدم الکثیرون بأنحاء العالم اللاعنف لتحسین الأوضاع فی مجتمعاتهم وبلدانهم والعالم أسره، وللدفاع بشکل سلمی عمن انتهکت حقوقهم، کما قال لایتشاک، مشددا على ضرورة أن تدعم الأمم المتحدة جهودهم.وأشار رئیس الدورة الحالیة للجمعیة العامة إلى أن الأمم المتحدة هی أکبر الجهات الدولیة التی تعزز مبدأ اللاعنف. وقال إن المنظمة الدولیة تستخدم، کل یوم، أشکال اللاعنف للسعی لتحقیق السلام والحیاة الکریمة للجمیع على کوکب مستدام.
"للأسف لا نعیش بعد فی العالم الذی حلم به غاندی. الکثیرون مازالوا یختارون استخدام العنف. وکل یوم نشهد أدلة جدیدة على التدمیر والمعاناة البشریة الناجمة عن هذا الاختیار. أصبح التعصب وخطاب الکراهیة من سمات عصرنا. وتتعرض حقوق الإنسان والقانون الدولی لحقوق الإنسان للانتهاک بشکل مستمر . ولا تبدو أیة مؤشرات على تراجع الصراعات، والتطرف العنیف والإرهاب. حتى کوکب الأرض یعانی من أشکال العنف، بسبب الآثار الضارة للأنشطة البشریة."
وقال رئیس الجمعیة العامة إن الحاجة تشتد الیوم وأکثر من أی وقت مضى لرسالة اللاعنف.وأضاف أن العنف یبث الخوف، أما اللاعنف فیـُلهم الناس بالعمل الإیجابی الذی تشتد إلیه الحاجة لإحداث التغییر المطلوب.وأکد لایتشاک ضرورة أن تبذل الأمم المتحدة المزید فی هذا المجال، مشیرا إلى أهمیة وفعالیة جهود الوساطة لمنع نشوب الصراعات.
من هو المهاتما غاندی؟
إن السلمیّة لا تعنی عدم ممارسة العنف فقط، ولکنّها تعنی اتخاذ موقفٍ إیجابیٍّ لمقاومة الظلم، أو لإحداث التغییر المرجوّ.
“إن جوهر فلسفة اللاعنف یکمن فی المجاهدة للتخلّص من الأحقاد لا الحاقدین”
موهانداس کرمشاند غاندی (Mohandas K. Gandhi) (1869-1948) هو واحد من أشهر قادة حرکة اللاعنف، ومن بین الذین عارضوا الحکم البریطانیّ الاستبدادیّ خلال القرن العشرین.
تأثُّر المهاتما غاندی (Mahatma Gandhi) بفکرة الأهمسا (ahimsa) (اللا أذیَّة) الموجودة فی البوذیّة والهندوسیّة والیانیة مما جعله یحوّلُها إلى أداة تحرکٍ جماهیریّة سلمیّة؛ لیستخدمها لیس فقط فی مقاومة الاستعمار، وإنما فی مقاوَمة بعض الآفات الاجتماعیة کالنّبْذ والتمییز الطائفی.سمّى غاندی (Gandhi) فلسفتَه باسم الساتیاغراها (Satyagraha) والتی تعنی حرفیّا: (قوة الحقّ).
والهدف من وراء تلک العقیدة أن تغیّر من خصمک؛ فتکسب عقله وقلبه، ثم تقنعه أن رؤیتَک هی الرؤیة السلیمة.أکّد غاندی (Gandhi) أنّ الساتیاغراها (Satyagraha) لیست سلاح الضعفاء، ولکنها سلاح الأقویاء على الحقیقة؛ لأنها تؤمن باللاعنف تحت أیّ ظرف کان، هذا، غیر إصرارها على نصرة الحق دائمًا.بل إن غاندی (Gandhi) لم یکن یعتقدُ أنّ اللا عنف هو وسیلة من لا یجرؤ على حمل السّلاح کما یُتّهم هذا الفکر دائمًا.
نموذج للاعنف
بإمکاننا أن نفهم هذه الفلسفة فهمًا واضحًا من خلال النظر فی تلک التعلیمات التی أوصى بها غاندی (Gandhi) أتباع حرکة الساتیاغراها (Satyagraha) فی الهند.
– تعنی الساتیاغراها (Satyagraha) المقاومة المدنیة الخالیة من الغضب تمامًا.
– علیک أن تتحمّل سخط خصْمک.
– علیک أن تصبر على تعدّیات الخصم من غیر التفکیر فی الانتقام منه بتاتا، ومن غیر الإذعان لتهدید أو عقاب، وألا تنفّذ أمرا تلقّیْته تحت تأثیر صولة الغضب.
– إن أرادت السُّلطة أن توقف مقاوما مدنیا، فعلیه – إن تعرّض لذلک – أن یتقبّل الأمر، وألا یعارض الحجز على أمواله أو الاستیلاء علیها إن سعت السلطات إلى مصادرتها.
– إن ائتُمِن المعارض على مال عُهِد به إلیه؛ فلا یسلّم ما ائتُمن علیه ولو کلّفه ذلک حیاتَه، ومع ذلک علیه أنْ لا یدفعَ الشرّ بالشرّ.
– رفضُ الانتقام یباعد بینک وبین المسبّة والمعرّة.
– لذا فإن المعارض المدنیّ یجب علیه ألّا یسب خصمه أبدا، أو أن یرفع شعارا من الشعارات التی لا تتوافق مع فلسفة اللا عنف، والتی أصبحتْ مألوفةً إلى حدٍّ بعید.
– المقاوم المدنی لا یهین خصمَه أبدا، وعلیه، فإنه لا یشارک فی الهتافات المتعارف علیها مؤخّرا والتی تتعارض مع روح اللا عنف.
– لا یحیی المقاوم المدنی العلم البریطانی، ومع ذلک لا یسبّ أحدًا من العاملین سواء کان هندیا أم إنجلیزیّا.
– إن أُهین مسؤول أثناء النضال؛ فعلى المقاوم المدنی أن یحمیه وأن یدفع عنه ولو کلّفه ذلک حیاته.
غاندی وسیاسات اللا عنف
إنّ لأفکار مهاتما غاندی آثرٌ مستدیم على الیسار، من حرکة الحقوق المدنیّة فی الستینات حتّى الحرکات المناهضة لجشع الشرکات والعنصریّة التی تنشأ الیوم، فالکثیر یرون غاندی کتجسیدٍ لسلمیّة فعّالة سیاسیًا. ولکن قصة نجاح استراتیجیّة غاندی اللا عنفیّة أغلبها – واقعًا – مجرّد خرافة.
النسخة الشائعة لخرافة غاندی هی التشدید السطحی على أنّ نضالًا مبنیًا على السلمیّة أجبَر البریطانیین على الخروج من الهند. وعبّر مارتن لوثر کینغ جونیور عن هذا الرأی مرّات عدّة عن طرق حرکة الحقوق المدنیّة التی قادها، حیث قال: «هذه الطریقة شاعت فی جیلنا عن طریق غاندی، الذی استخدمها لتحریر بلده من سیطرة الإمبراطوریّة البریطانیّة». واعتقد مارتن لوثر کینغ أنّ «حصول ظاهرة کغاندی کان أمرًا حتمیًا. إن کان مصیر الإنسانیّة هو التقدّم، فلیس بإمکانها الهرب من غاندی. لقد عاش وفکّر وتصرّف مستلهمًا بنظرة الإنسانیة المُتطوّرة تجاه عالم من سلام وتناغم. بإمکاننا تجاهل غاندی، ولکن علینا نتحمّل عواقب ذلک».
هذه النظرة لإسهامات غاندی أعطت مبدأ اللاعنف مصداقیّة فی محاربة الظلم حول العالم منذ ذاک الوقت.
ولکن ثورة الهنود ضدّ الحکم البریطانی یمکن وصفها بأیّ وصف إلّا بأنّها لا عنفیّة. وأفکار غاندی التکتیکیة قامت إضافةً إلى ذلک، کونها مُرشدًا للنضال، بفرض حدود خطیرة على النضال. والحرکات التی بدأت تحت رعایة غاندی کثیرًا ما انتهت بتقهقر مبکّر أو شهدت تصعیدًا لمواجهات عنفیة. أمّا طرد البریطانیین عام 1947 فلا یمکن اعتباره انتصارا لطرق غاندی، إذ أن استقلال الهند أتى حین کانت الحرکة المناهضة للاستعمار تهمّش غاندی وفلسفته اللا عنفیة سیاسیًا.
ولکنّ على الرغم من ذلک، کان لغاندی مساهماتٌ مهمّة فی الحرکة، وأهمّها کان نجاحه فی قیادة جموعٍ من الناس للنضال ضد الحکم البریطانی، وهو أمرٌ قام به بشکلٍ أفضل من أیّ قائد هندیّ آخر. ولکن، بینما کانت قیادة غاندی الشعلة لهذه النضالات، لم تکن هی سببها. فالنضالات هذه نشأت من مظالم حقیقیّة عمیقة ضدّ الحکم البریطانی والجموع – بعد أن تمّ تحشیدهم – برهنوا مِرارًا استعدادهم لتبنّی تکتیکاتٍ مُحارِبة حین لا تنجح التکتیکات اللا عنفیّة.ولکی نفهم هذه المظالم ونفهم النضالات التی ألهمتها هذه المظالم، یجب أن نعود إلى النظّر لخلفیّة الحکم الاستعماریّ البریطانی.
«یجب إدماء الهند»
کانت الهند بالنسبة للغُزاة البریطانیّین مصدرًا للأرباح وقاعدة لعملیّاتهم العسکریّة الممتدّة من إفریقیا حتّى إندونیسیا – مُستخدمین جنودًا هندیّین. ومنذ مراحل المبکّرة للاحتلال فی أواخر القرن الثامن عشر، بدأ البریطانیّون بفرضِ ضرائب هدفها تمویل وجودهم فی الهند وإرسال الأموال لبریطانیا. ومنذ 1765، فرضت شرکة الهند الشرقیّة البریطانیّة احتکاراتٍ على الاحتیاجات الشائعة – کالملح مثلًا – فی الأراضی التی تتحکم بها.
هذه الاحتکارات أنتجت سخطًا وتمرّدًا فی القرنین التالیین. ولکن البدعة البریطانیّة التی جلبت البؤس للملاین کانت فرض علاقات السوق – الاقتصاد المالی – على الزراعة.
أتت الخطوة الأولى تجاه إدخال العلاقات المالیّة بفرض ضرائب على کلّ الأراضی. فحین استبدل البریطانیّون الإمبراطوریة المغولیّة المتهاویة، أحکموا السیطرة على نظام إیرادات الأراضی المغولی ووسّعوه بشکلٍ کبیر، حیث کان هذا النظام مبنیًا على جامعی ضرائب محلّیین عرِفوا بمسمّى «زامینداریّة». قام البریطانیون بتعمیم استخدام هذا النظام حیث وُجِد وسمحوا للـزامینداریة بأن یستحوذوا على عشرة بالمئة من إیرادات الأراضی. وفی أماکِن أخرى، أسّس الحکم البریطانیّ ضرائب مُباشرة.
أصبح الفلّاحون بسبب ذلک بحاجة لبیع جزءٍ من منتوجهم فی السوق للحصول على أموال لدفع الضرائب، وبحلول 1860، بدأ هذا النظام بالانتشار فی أرجاء الهند البریطانیّة، حیث سهّل انتشاره نظام قطارات جدید یحمل القطن ونبات النّیلة لخارج البلد، تجاه السوق البریطانیّة وأسواق أخرى.
فکان أثر ذلک على القرى أن تحوّلت الثروة القوى للطبقات التی تمتلک الأموال، من ضمنهم الزامینداریّة ومُقرِضو الأموال المرابون الذین بدأوا – مدعومین بضماناتٍ قانونیّة بریطانیّة على حقوقهم الملکیّة – بشراء کل ما هو متواجد من بقع أراضٍ شاسعة. الملکیّة [الخاصّة] هذه سمحت لهم بفرض إیجار على الفلّاحین علاوةً على الضرائب التی استخرجوها منهم.
أضحى الفلّاحون المحرومون عمّالًا زراعیّین یعملون بالیومیة، وهذی طبقة اجتماعیّة نشأت من عددٍ مقاربٍ للصّفر عام 1852، فوصلت لنسبة 18% من سکّان الرّیف عام 1872. وبحلول منتصف القرن العشرین، شکّلت الطبقة الکادحة الزراعیّة – أی أولئک الذین لا یملکون أراضٍ، أو ملکوا أراضی صغیرة جدًا لدرجة أنّهم یضطّرون للعمل لدى أناسٍ آخرین لیکسبوا لقمة عیشهم – نصف سکّان الریف.
إذًا، علاقات السوق نقلت الثروة لأیدی ملّاک الأراضی الهنود، وهی عملیّة أطلق علیها مارکس مسمّى «تکدیس رأس المال البِدائی [أیَ: الأولّی]» حین جرت فی إنکلترا. ولکن الفلّاحین الهنود المحرومین لم تکن لدیهم القدرة على البحث عن وظائف صناعیة کما حصل مع الفلّاحین الإنکلیزیّین، فبدایة إنکلترا المبکّرة فی الصناعة سمحت لها بغمر السوق الهندیّة بسلعٍ مصنعیّة، وهذه البضائع المستوردة بدأت حینئذٍ بسحق الصناعات الهندیّة الحِرفیّة، من ضمنها صنع الأدوات المعدنیّة و – بالخصوص – صناعة الملابس.
النتیجة کانت إیقاع الفلّاحین فی بؤسٍ ریفی وأن توسّعت الطبقة الکادحة الریفیّة أکثر لکون الغزّالین والنسّاجین أصبحوا عاطلین عن العمل.
فمن ثمّ إذًا، أسّس الحکم البریطانیّ لتراجعٍ شدید للرفاهیة المادیّة لأغلب الهنود. عانت الهند قبل الاحتلال ممّا معدّله مجاعة عامّة واحدة کل 50 عام، ولکنّ المجاعات ونقص الغذاء استحوذت على أجزاءٍ من الهند لـ20 من 49 عامًا فی فترة ما بین 1860 و 1908 [وکان ذلک تحت الحکم البریطانی]. فالاحتیاطات التی حفاظ علیها المزارعون سابقًا لحمایة أنفسهم فی فترات قلّة هطول الأمطار أصبحت الآن تُباع روتینیًا بغرض دفع الإیجارات والضرائب، حیث تُشحن وتُرسَل للخارج.
لخّص لورد روبیرت سالیسبری، وزیر الخارجیّة البریطانی فی الهند، أهداف الحکم البریطانی فی تلک الفترة مُعلنًا أنّه «یجب إدماء الهند».بیّن کارل مارکس ذلک بالأرقام: «ما یأخذه الإنکلیز من الهنود سنویًا على شکلِ إیجارات وعوائد مالیّة لسککٍ حدیدیة لا ینتفع منها الهندوس، ورواتب للموظّفین العسکریین والمدنیین ولحروبهم فی أفغانستان وغیرها من الحروب…إلخ إلخ – ما یأخذونه منهم بدون أی مقابل، عدى عمّا یستحوذون علیه لأنفسهم داخل الهند، وذلک فقط حین نتحدّث عن قیمة السِلع التی یرسلها الهنود بلا مقابل سنویًا إلى إنکلترا، فقیمتها أکثر من الجموع الکلّی لدخل ستّین ملیون عامل صناعی وزراعی فی الهند! هذه علمیّة إدماءٍ تجری بحماسٍ شدید!» [تشدید مارکس]
توجّه غاندی نحو السیاسة
وُلِد موهانداس غاندی عام 1869 فی مقاطعة قوجارات الهندیة، کانت عائلته من طائفة «بانیا» التجاریّة التی شکّلت – ومعها البراهِمة – جزءًا کبیرًا من الطبقة الوسطى. حین کان شابًا، ذهب غاندی لإنکلترا لدراسة القانون، ولکن انتهى به الأمر بأن ترک مِهنته وتبنّی أسلوب حیاة ولباس الفلّاحین الهندوس، مُستخدمًا الرمزیات الهندوسیة التقلیدیة لیخلق انتماءً مع القرویین.
معتقداته الدینیّة المُخلِصة لم تأتِ من تعلیمٍ أرثودوکسی فی الطفولة وإنما من دراساتٍ قام بها کإنسان بالغ أثناء نشاطه السیاسی فی جنوب إفریقیا. ومع عودته للهند من إنکلترا، واجه صعوباتٍ بدایةً فی عمله کمحامٍ وقبل بعرض فی عام 1893 لیعمل على قضیّة تجاریة فی جنوب إفریقیا. ومعها، انتهى به الأمر بأن أقام هناک – مع زیاراتٍ قصیرة للهند – لأکثر من عشرین عامًا.
کانت العنصریّة فی جنوب إفریقیا أشدّ مما کانت علیه فی الهند، وأصبح غاندی مناصرًا وقائدًا للهنود المهاجرین إلى جنوب إفریقیا. تصاعدت النضالات لأجل حقوق الهنود خلال إقامة غاندی هناک، وکان علیه تعلیم نفسه مهاراتٍ جعلت منه متمیّزًا حین عاد للهند، منها مهاراتٌ عن کیفیّة تجاوز الانقسامات الطائفیة والطبقیة والدینیة بهدف بناء قاعدة لحراکٍ شعبی دراماتیکی. کان غاندی أبعد مما یکون عن السذاجة، فقد تعلّم مهارات جمع التبرعات والمحاسبة الضروریة للإبقاء على السیاسات الشعبیّة.
ومن خلال تلک العملیّة، أثّر نموّ غاندی الدینی على سیاساته بشکلٍ متزاید. من خلال قراءاته لکتابات لیو تولستوی – حیث تراسل معه أیضًا – وکتابات المنظّر الاجتماعی روبرت رسکن – معها قراءة ذات طابعٍ شخصی للنصوص الهندوسیة – وجد غاندی فلسفةً تشخّص الظلم الحدیث کأمرٍ ناتج عن المصنعة واقترح العمل السیاسی اللا عنفی کعلاج.
آمن غاندی أن البحث عن الحقیقة هو هدف حیاة الإنسان، وبما أنّه «من غیر الممکن لأی شخص أن یکون متأکدًا من أنّه وصل للحقیقة المطلقة، فإن استخدام العنف لفرض فهم الشخص الجزئی – بالضرورة – للحقیقة أمرٌ أثیم».
بحلول عام 1907، أنشأ غاندی الاستراتیجیات الأساسیّة للمقاومة اللا عنفیّة، التی سمّها بـ«ساتیاغراها». تکوّنت الاستراتیجیة من تدریب بذرة من المتطوعّین الذین سیساعدون على قیادة مسیرات شعبیّة ومخالفات شعبیّة لقوانین معینة نتیجتها اعتقالاتٌ جماعیة. ومع ثلاث حملات لا عنفیة فی السبع سنوات التی تلت، مع نصوصٍ متزایدة من مقالاتٍ ومنشورات، جعل ذلک غاندی مشهورًا فی الهند حتّى قبل عودته.
أثناء إقامته فی جنوب إفریقیا، کتب غاندی عن الهند فی منشورٍ عام 1909 بعنوان «هند سواراج» (حکم الهند الذاتی)، واستهدف ما ظنّ أنه العدو الحقیقی، ألا وهو الحضارة الصناعیة: «من الحماقة أن نعتقد أن روکفیلر هندی سیکون أفضل من روکفیلر الأمریکی [جون روکفیلر کان أحد أکبر التّجار الأمریکیین]…یتلخّص خلاص الهند فی نبذ ما تعلمّته خلال الخمسین سنة الماضیة أو ما قاربها. السکک الحدیدیة، البرقیات، المستشفیات، والمحامون والأطباء وکلّ ما شابههم علیها بنبذهم، وعلى ما یسمّى بالطبقة العلیا بأن تتعلم أن تعیش بوعیٍ وتدیّنٍ وبتعمّدٍ حیاة المزارع البسیطة».
إلى زمن مضى کانت – بالتأکید – غیر واقعیّة، بالخصوص حین ننظر للنموّ الجدید للطبقة العاملة والبورجوازیة الهندیّة، ولم تجد هذه النظرة أی تأییدٍ حقیقی لدى العناصر القیادیّة للحرکة الوطنیّة – المثقفون الهنود وأصحاب المصانع.
کانت نظرته طوباویة بالخصوص فکرة أنّ «من یسمَّون بالطبقة العلیا» سیقومون من تلقاء أنفسهم بالتنازل عن منزلتهم الغنیّة لیعیشوا کالفلّاحین، فقد کان الأمر فی الواقع على العکس تمامًا، فالرغبة المتزایدة لدى الطبقة الغنیّة الهندیة بإبعاد البریطانیین لم یکن سببها إلّا رغبتهم بأن یصبحوا «روکفیلر الهندی» الجدید.
مع أنّ نظرة غاندی المناهضة للتصنیع لم تلق قبولًا واسعًا عند الطبقات المدینیة المتزایدة فی الهند، فقد ضربت وترًا حساسًا عند الفئات الشعبیة الهندیّة الکبیرة – بالخصوص الفلّاحین الفقراء والنسّاجین والغزّالین العاطلین عن العمل – التی سحقها ارتباطها بنظام التصنیع البریطانی.
طبّق غاندی الجزء المناهض للحداثة من فِکره من خلال العمّال الاجتماعیین فی القرى حیث نظّموا مجموعات مساعدة ذاتیة ضمن فقراء الریف. مع أنّ هذا «العمل البنّاء» لم یکن له تأثیر حقیقی فی مکافحة الفقر، فقد أدّى لخلق تأیید شعبیّ لحزب المؤتمر – وصنع قاعدة شعبیة أطلق من خلالها حملاته المستقبلیة.
على الرغم من الغرابة الواضحة فی فلسفة غاندی، فقد بدى أنّ استراتیجیة العمل الشعبی اللا عنفی وفّرت طریقًا للأمام لحرکة المقاومة على کلٍ من الصعیدین النخبوی والشعبی. فحین وصل غاندی للهند عام 1915، کان المحاربون من حزب المؤتمر یقومون بأعمالٍ إرهابیة فردیّة لم تقم بأی تغییر حقیقی، والفئات الشعبیة قامت بانتفاضاتٍ محلیّة قُمِعت بوحشیة – حیث تبعها الخضوع الیومی للظُلم. ما قدّمته أفکار غاندی هو بدیلٌ لهذین الخیارین غیر المرضیین.
کان لجاذبیّة استراتیجیة غاندی جانبان. فقد لقت قبولًا لدى القرویین لأنها طریقة جمعیّة للمقاومة ولمحاولة الترفّع عن العنف وبرهنة کرامة قضیّتهم. ولقت قبولًا عند التجّار الأغنیاء وملّاک الأراضی والمزارعین من أصحاب الأراضی الصغیرة الذین دعموا استراتیجیة غاندی لأنها وفّرت لهم أملًا بالتّخلص من البریطانیین من دون أن یکون لذلک تهدید بتدمیر ممتلکاتهم أو تعریض مکانتهم الاقتصادیة والاجتماعیة للخطر. طرح غاندی طریقته النضالیة للقیادات الأکثر محافظةً فی حزب المؤتمر کطریقة لسحب القیادة من الجزء المحارب من الحزب نفسه، حیث قال لهم: «إنّ الجیل الناشئ لن ترضیه العرائض…ساتیاغراها [اللا عُنف] هی الطریقة الوحیدة – حسب رؤیتی – لإنهاء الإرهاب.»
قیادة النضال وتقییده
على الرغم من مهارات غاندی وتأثیر شخصیّته القویّ، فقد کان یُشعِل قوىً أکبر من أن یتحکّم بها. بالإمکان رؤیة نسقٍ مبسّط لذلک مرّةً أخرى فی حرکة العصیان المدنی فی أوائل ثلاثینات القرن العشرین، حیث انطلقت بدأً بالحملة الشهیرة لکسر احتکار الملح من قِبل البریطانیین.
تصعّدت الحملة السلمیّة بسرعة، إذ قادت مسیرات شعبیّة تجاه السالح لکسر احتکار الملح من قِبل البریطانیین لاعتقالات جماعیة، وأشعلت أخبار اعتقال غاندی إضرابًا من قِبل عمّال الأنسجة فی ماهاراشترا، وقام المُضرِبون بالهجوم على مخافر شرطة ومحاکم القانونیة ومبانٍ رسمیة الأخرى. وفی الإقلیم المرکزی، تصعّدت حملةٌ سلمیّة لخرق القیود المفروضة على استخدام الغابات لهجماتٍ على الشرطة وقامت حشود بقطع الأشجار بشکل غیر قانونی، وفی أرجاء البلاد، قام الفلّاحون الذین رفضوا دفع ضرائب على أراضیهم بالمقاومة الجسدیة لمحاولات الشرطة مصادرةَ ممتلکاتهم.
مع ترکیز غاندی على معاناة المزارعین، فإن موقفه تجاه مطالبِهم الطبقیّة لم یختلف عن موقفه تجاه نضالات العمّال، فحین اندلعت انتفاضة «موبلاه» فی مالابار عام 1921، کان ردّ المؤتمر الوطنی بأن عاداها صراحةً، فقد ضربت بعض إضرابات المزارعین مزارِع شایٍ مملوکة من قبل بعض أعضاء الحزب، وقام أعضاء الحزب هؤلاء بکلّ ما فی استطاعتهم لإیقاف الانتفاضة. ألقى غاندی خطابًا أعلن فیه أنّ الهدف هو «أنّ نجعل الزامینداریّة أصدقائنا». حیث أعرب عن أنّه «[یـ]ـستنکر کلّ المحاولات لخلق خلافٍ ما بین ملّاک الأراضی والمستأجرین و[یـ]نصح کلّ المستأجرین بأن یعانوا عِوضًا عن أن یقاتلوا، فهم یجب علیهم أن یوحّدوا جهودهم [مع ملّاک الأراضی] لمواجهة أکثر الزامینداریّة قوّةً، ألا وهی الحکومة».
ولم یتکتف بذلک فحسب، بل طمأن ملّاک الأراضی قائلًا: «لن أشارک أنا فی حرمان الطبقات المالِکة للأراضی من ممتلکاتهم الخاصّة بدون قضیّة عادلة. إنّ هدفی هو الوصول لقلوبکم وأغیّر نظرتکم حتى تقوموا [من تلقاء أنفسکم] بتأمین ممتلکاتکم الخاصّة من أجل مستأجریها وتوظّفوها فی المقام الأول من أجل رفاهیتهم. ولو کانت هنالک فرَضًا أیّ محاولة لحرمانکم ظُلمًا من أراضیکم، فستجدوننی أقاتل إلى جانبکم».
أحسّ المزارعون – الذین کانوا یزدادون رادیکالیّة – بأنّ غاندی خانهم، وفی أحد القرى، رفض بعض الناس الذین أهالوا علیه باقات الورد – سابقًا – بأن یقدّموا له الطعام.
کان غاندی دائمًا یحاول التوفیق ما بین الانقسامات الطبقیّة. وإخلاصه للّا عنف کان أحد الطرق لإحکام السیطرة على النضال، فإن رفْضَ تأیید الاستخدام الانتقائی للعنف الجسدی استبعدَ عملیًا الإضرابات کأحد أسالیب النضال، حیث أشار أحد ملّاک المصانع فی بومبای متحدّثًا عن الإضرابات فی 1929 أن «الاعتصامات السلمیّة أمرٌ غیر حقیقیّ»، وذلک لأنّ غرض الاعتصام عند مدخل المصنع هو منع کاسری الاعتصامات من دخول المصانع.
وعلّى الرغم من جهود غاندی، فلم یکن من الممکن التخفیف من الانقسامات الطبقیّة، وتجاوزت حملات غاندی – باستمرار – الحدود التی حاوَل فرضها، وذلک لأنّه کان – بغرض بناء قاعدة شعبیّة – یقوم متعمّدًا باستثمار مظالم الناس الحقیقیة، وکثیرًا ما کان لهذه المظالم جانبٌ طبقیّ.
وحین قوبِل من قام غاندی بتحشیدهم بالقمع، شعروا أنه من المبرّر لهم استخدام أیّ طریقة ضروریّة للحصول على ما شعروا أنّهم یستحقّونه. وقادت حملات العصیان المدنی – علاوة على ذلک – مشارکیها للوصول للاستنتاج الطبیعی حول [وجوب] مقاومة کلّ القوانین الظالمة، مثل القوانین التی تدافع عن حقّ أصحاب الأراضی بفرض إیجارات ساحقة.
غاندی الذی وعد فی 1930 أن «[یـ]ـحارب حتى النهایة» للحکم الهندی الذاتی، أنهى حرکة العصیان المدنی الهائلة لعامی 1930 و1931 بعد أن حصل على تنازلاتٍ رمزیّة، لا أکثر – مخیبًا حتى آمال المتعاونین القریبین منه کـ جواهرلال نهرو، الذی صرّح یومًا بکلمات تی. إس. إیلیوت: «هکذا ینتهی العالم/لیس بـدویّ وإنما بأنین».
وبعدها، فی مایو عام 1933، حین أوقف غاندی حرکة العصیان المدنی الثانیّة التی بدأها فی العام الذی سبقه، اتحدّ رفاقه من الحزب غضبًا، حیث قال نهرو: «بعد کلّ هذه التضحیات والمساعی الشجاعة، هل کان على حرکتنا أن تتضاءل تدریجیًا لتصبح شیئًا تافه؟ أحسست بالغضب منه [أی، غاندی] بسبب منهجه الدینی الوجدانی تجاه مسألةٍ سیاسیّة وإشاراته المتکررة لله بالنسبة لهذه المسألة».
نَقَد سوبهاس تشاندرا بوز، أحد المحاربین من حزب المؤتمر، تراجع غاندی نقدًا لاذعًا: «وضعُـنا الیوم مماثلٍ لوضعِ جیشٍ استسلم فجأةً للعدو فی وسط حملةٍ طویلة، والاستسلام هذا لم یکن بسبب مطالبة الأمّة بِه، ولم یکن بسبب ثورةٍ قام بها الجیش الوطنی ضدّ قادته حیث رفض القتال…إنما کان هذا الاستسلام إمّا لأن القائد الأعلى للقوّات کان منهکًا بسبب صیامٍ متکرّر أو لأن عقله وأحکامه شوّشت علیهما قضایا شخصیّة یستحیل على أیّ شخصٍ غیره فهمها».
النضال الطبقی مقابل الصراع الطائفی
رفض غاندی تبنّی المطالب الطبقیة لاعتباراتٍ أخلاقیّة، وداعِمو حزبِه البورجوازیین لم یکونوا راغبین حتمًا بدعم نضالٍ طبقی. ونتیجة ذلک کانت أن حزب المؤتمر الوطنی – وهو القوّة الرئیسیّة للتحرّر الوطنی الهندی – فوّت فرصة إقامة روابط مصالح طبقیّة ما بین المزارعین والعمّال الهندوس والمسلمین. فرابطةٌ کهذه کانت ستتصدّى لثانی أقوى نزعة سیاسیّة فی الهند بعد القومیّة، إلا وهی السیاسات الطائفیة.
الطائفیّة – وهی السیاسات التی طرحت الدّین کالمقسّم الرئیسی للهند – قادت الهندوس والمسلمین للهجوم على بعضهم البعض فی أعمال شغب دمویّة. کانت الطائفیّة تنتشر فی الفترات التی انحسرت فیها الموجة القومیّة، کما حصل فی عشرینات القرن العشرین، حین لم یتم توجیه مظالم الناس لحملات شعبیّة. إذًا، فالصراع الطائفی لیس مبنیًا على آمالٍ متزایدة، وإنما ینمو بسبب آمالٍ خائبة – ویوجِّه المرارات التی یعانی منها الناس تجاه أکباشِ فداء. معّ أنّ أعداءهم المعلن عنهم هم أولئک المنتمون لدینٍ آخر، ولکن المنظّمات التعصّب الدینی (communal organizations) تعمل واقعًا على إخضاع الهنود من الطبقات والطوائف السفلى (lower caste) لأعضاء النُخبة من دینهم نفسه. کما تجادل أحد الدراسات:
تـنـبع الهندوتفا المنظّمة [وهی أیدیولوجیة یمینیّة تسعى لهیمنة النهج الهندوسی] مباشرةً منذ بدایتها کردّة فعلٍ من الطوائف العلیا لجهود المجموعات الهندوسیّة المسحوقة على تأکید ذاتها…
منذ ولادة جماعة «راشتریا سوایامسیفاک سانغ» [«منظّمة التطوّع الوطنی» وهی منظّمة فاشستیّة هندوسیّة نشأت عام 1925]، حتّى یومنا هذا تکوّنت أغلبیتها الساحقة من طوائف «البراهِمة» و«البانیا» من الطبقة الوسطى، جمعهم الخوف المهووس الموجّه تجاه الفئات الاجتماعیّة الأخرى: المسلمون هم أکثرها وضوحًا، ولکنّه موجّه أیضًا تجاه الهندوس من الطوائف السفلى.
لم تُکوِّن «العُصبة الإسلامیّة» – التی أنشأها مسلمون من الطبقة الوسطى عام 1906 – تنظیمًا على شاکلة تنظیمات مجرمی الشوارع کما فعلت منظّمة التطوّع الوطنی الهندوسیّة. ومع کون سیاسات العصبة الإسلامیّة رجعیة، فقد عبّرت عن اهتمامٍ بالحالة الضعیفة للفلّاحین والعمّال المسلمین، وفی نفس الوقت کانت تکبحهم عن النضالات الطبقیّة والوطنیّة – وهی نضالاتٌ تتضمّن لا محالة إنشاء تحالفاتٍ مع الهندوس.
کان الحزب الشیوعیّ الهندی – الذی أُسِس عام 1925 – علاجًا فعّالًا للانقسامات الطائفیّة فی الأماکن التی انتشر فیها، فعن طریق بناء وحدةٍ مبنیّة على الطبقة، کان للحزب الشیوعی الهندی النجاح الأکبر فی تنظیم نقابات مثل نقابة «غیرنی کامغار»، وهی أقوى نقابة فی بومبای. وفی عام 1929، کان لدى الحزب الشیوعی الهندی 42 لجنة عمّالیة فی معامل النسیج وقام بقیادة إضرابٍ ناجح على نطاق القطاع بأکمله هدفه رفع الأجور. وکان الشیوعیّون یکسبون نفوذًا فی أوساط عمّال السکک الحدیدة وعمّال الزّیت أیضًا.
ولسوء الحظ، تراجعت الحرکة العمّالیة والحزب الشیوعی بحلول عام 1930 وذلک بسبب القمع الوحشی من قِبل البریطانیین والتقلّبات فی استراتیجیّة الحزب الشیوعی مما عمِل على إضعاف البدیل العمّالی المنظّم الوحید للطائفیّة والوطنیّة البورجوازیّة. فی عام 1928، تبنّى الحزب الشیوعی سیاسة ستالین المتمثّلة فی مهاجمة قیادات حزب المؤتمر ذوی المیول الیساریّة نسبیًا. ونتیجة ذلک کانت أن أبعد الحزب الشیوعی نفسه – ومعه، بشکلٍ مأساوی، أغلبیّة العمّال – من الموجة التالیة من النضال الوطنی، ألا وهی حملة العصیان المدنی لعامی 1930 و1931. وأدّى دعم الحزب الشیوعی فیما بعد لروسیا الستالینیّة فی الحرب العالمیّة الثانیة – ویتبعه بطبیعة الحال دعم المجهود الحربی البریطانی – أبعدهم أیضًا من الحرکة الاستقلالیة الهندیّة لعام 1942.
على الرغم من التقلّبات الغریبة فی سیاسات الحزب الشیوعی الهندی، فإن موقفه المؤیّد للوحدة الطبقیّة ظلّ هو الثقل المقابل الوحید للانقسامات الطائفیّة فی الریف – حیث أن «فشل قیادات حزب المؤتمر فی اعتناق الرادیکالیّة الزراعیة حتى فی أوضاع الکساد [العظیم] دفعت حرکات الفلّاحین المسلمین لاعتناق موجاتٍ انفصالیّة بشکلٍ متزاید».
الاستقلال والتقسیم وحمّام الدمّ الطائفی
کان هنالک مزیجٌ من العوامل التی دفعت البریطانیین للقبول – أخیرًا – بأنّهم لا یمکن لهم أن یحکموا الهند بعد الآن، وبعض هذه العوامل نشطت خارج الهند. کان من ضمنها الضغط العام لإنهاء الاستعمار – الذی أتى عن طریق کلٍ من حرکات التحرر الوطنی والولایات المتحدّة التی طالبت بریطانیا بأن تفتح أسواقها للتغلغل الأمریکی بعد أن انتهت الحرب العالمیة الثانیة، وکان ذلک مقابِل الدعم العسکری عن طریق إعارة وتأجیر الأسلحة الذی وفّرته الولایات المتحدة لبریطانیا.
کان من الواضح أنّ الإمبراطوریة تتهاوى، فقد برهن اجتیاحُ القوى الیابانیة المستعمراتِ البریطانیة فی آسیا بدون أی مصاعب تُذکر للهنود أنّ العملاق البریطانی بالإمکان هزیمته. وداخل الهند، أطلق غاندی الحرکة الاستقلالیة الهندیة عام 1942، إذ أصبحت هذه أکبر انتفاضة منذ عام 1957.
ولکن بعد الحرب، حین کانت بریطانیا تفاوض شروط ترک الحکم مع حزب المؤتمر والعصبة الإسلامیّة، استمرّت الانتفاضة بدون رعایة حزب المؤتمر، وفی عام 1946، قام قرابة ملیونیّ عامِل – أی أکثر من نصف الطبقة العاملة الهندیّة – بإضراب، مما دفع حتّى جواهرلال نهرو – یسار حزب المؤتمر – لإدانتهم، إذ کان سیصبح رئیس الوزراء الهندی الأول ولم یرغب بأن یرث قوّةً عامِلة غیر منضبطة.
دعا الحزب الشیوعی لإضرابٍ عام فی کالکوتا وبومبای، وشهد ذاک الإضراب طلّابًا وعمّال من هندوس ومسلمین یحاربون الشرطة فی الشوارع متّحدین
وما کان أعظم من ذلک هو تمرّد البحریّة الملکیّة الهندیّة لعام 1946 الذی بُنی أیضًا على وحدة ما بین الهندوس والمسلمین. أشعل هذا التمرّد إضراباتٍ متعاطفة فی بومبای من قِبل 300 ألف شخص – وأدانها کلٌ من غاندی وحزب المؤتمر.
وفی نفس الوقت، مع ترک حزب المؤتمر مجال الحراک الشعبیّ، أفسحت طفرات النضال المتّحدة المجال لعنفٍ طائفیّ بشع – مستوحىً من کلٍ من الیمین الهندوسی وحملة العصبة الإسلامیّة الراغبة بـ باکستان منفصلة. عمومًا، کانت السیاسات الشعبیة ما بعد الحرب العالمیة الثانیة خلیطًا ما بین إراقة الدماء لأسباب طائفیة ونقیض ذلک، أی: ثورة طبقیّة متّحدة.
فی النهایة، وافق المؤتمر الوطنی على انفصال باکستان لأنه لم یکن مستعدًا لدعم أی بدیلٍ حقیقی – ألا وهو نضالٌ طبقی مبنیّ على أسُسٍ ذا طابع یساری متصاعد. وبهذه الطریقة، تکفّل عملیًا هذا الرفض لبلورة النضال حول الخطوط الطبقیّة بسفک دماءٍ لأسباب طائفیّة. تتوّق البریطانیّون بدورهم لحصول حزب المؤتمر على السلطة لإدراکهم بأن إنهاء موجة الإضرابات التمرّدات سیکون أسهل على حکومةٍ هندیّة.
وصفَ «سومت سارکر» تداعیات الصفقة النهائیّة بین البریطانیین وحزب المؤتمر والعصبة الإسلامیة قائلًا: «بالنسبة لعددٍ کبیر من المسلمین فی الهند والهندوس فی باکستان، کان معنى “الحریة-مع-التقسیم” أن یختاروا خیارًا قاسیًا ما بین خطر العنف المفاجئ وحصر التوظیف والفرص الوظیفیّة، أو نزعٍ إجباریّ لجذورٍ عتیقة ینضمّوا بِه لجموع اللاجئین».
احتفل الملایین فی عام 1947 باستقلالٍ کسبوه عن طریق عقودٍ من النضال، ولکنّ ذلک العام شهد «هولوکوست» من عنفٍ وتطهیر عرقیّ رافقا تقسیم [الهند وباکستان]. أُجبِر سبعة عشر ملیون شخص على الهجرة وقُتِل ملیون شخص. تناثرت مئات آلاف الجثث على شوارع مدنٍ مثل «کـالکوتا» و«دلهی». ورویَ عن عربات قطارات ملیئة بالأموات ولا شیء سوى الأموات.
ارتحل غاندی – وکان فی ذلک الوقت فی أواخر سبعیناته – شخصیًا للمناطق التی اشتعل فیها العنف الطائفی وبذل قصارى جهده لیقنع الناس بالتوقّف، إذ مشى حافیًا فی أرجاء الأحیاء الفقیرة التی مزّقتها أعمال الشغب مُهدّدًا بأن «[یـ]ـصوم حتّى الموت». تمکّنت سلطته الأخلاقیة من إیقاف العنف بعض الأحیان، ولکن حین رحل غاندی عن تلک الأحیاء، کلّ المشاکل الاجتماعیة والاقتصادیة التی دفعت الناس لأن ینظروا للمجموعات الدینیّة الأخرى کأعدائهم الرئیسیین ظلّت موجودة.
اشمأزّ غاندی من الانتهازیّة التی رآها فی حزب المؤتمر، وحتّى موته ظلّ غاندی متمسّکًا بمبدأ مناهضة الطائفیّة. حین نشبت أعمال الشغب فی بنجاب، قال غاندی لأحد قیادات العصبة الإسلامیّة: «أرید أن أحارب [أعمال الشغب] ولو کلّفنی ذلک حیاتی. لن أسمح بأن یزحف المسلمون هوانًا فی شوارع الهند، یجب أن یمشوا على أرضها منتصبی القامة».
مات غاندی بسبب إعلائه للمساواة مع المسلمین، حیث اغتیل عام 1948 من قِبل هندوسی فاشستی. تمّ تدریب ناثورام غودسی – قاتِل غاندی – کمُنظِّم فی منظّمة التطوع الوطنی فی الثلاثینیات. ومن المشین أن نشیر أنّه قبل یومین أثناء کتابتنا لهذه المقالة، قام الرئیس [الأمریکی السابق] کلینتون (الذی قتلَ عن طریق إصراره على فرض عقوبات على العراق أکثر من نصف ملیون طفل) بتخصیص تمثالٍ لغاندی فی واشنطن العاصمة – حیث أیّده فی ذلک رئیس وزراء الهند، أتال بیهاری فاجبایی، المنتمی لمنظّمة التطوّع الوطنی.
القوّة الأخلاقیة والقوى الطبقیّة
مبدأ اللا عنف التابع لغاندی کان قوّة أخلاقیّة دفعت حرکاتٍ شعبیّة إلى الأمام فی مراحلها الأولى، ولکنّها کبحت النضالات هذه أیضًا فی اللحظات المهمّة. ونتیجة لذلک، تمکّنت الفئات الغنیّة فی مراکز المدن وفی الریف من فصلِ النضال من أجل الاستقلال السیاسی عن النضال لأجل التغییر الاجتماعی الرادیکالی – وبذا أُحطبت أهداف العدالة الاجتماعیة التی سعى لها غاندی نفسه. رحل البریطانیّون، ولکنّ البیروقراطیة والشرطة التی أنشأوها ظلّت تلعب نفس دورها السابق بدون تغیّرٍ ملحوظ – وظلّت تقمع انتفاضات العمّال والفلّاحین. لقد کانت إرادة غاندی قویّة، ولکنّ القوى الطبقیة أثبتت أنّها أقوى.
لم یؤیّد غاندی أبدًا القوّة الطبقیّة – ألا وهم العمّال – التی کان من الممکن أن تساعده فی نضاله الأخیر لتوحید الهندوس والمسلمین، فالنضال الطبقی کان من الممکن أن یحقّق ما حاول غاندی تحقیقه بسعیه الأخلاقی البحت.
لم یکن على الحرکة أن تفسَد کما حصل. فقد وُجدِت أوضاع احتمل أن تکون ثوریّة فی فترات 1919-1922 و1946-1947، ولکن لم یتشکّل حزب شعبی بأهدافٍ ثوریّة لیقود الحرکات نحو النصر.
وفی حرکة ما بعد الحرب العالمیة الثانیة، کانت نفس القوى التی أسقطت القیصر الروسی عام 1917 فی مرکز الانتفاضة – ألا وهم طبقة العاملة الصناعیة، ومعهم الفلّاحون والعمّال العسکریّون. وفی وضع الهند، قام الحزب الشعبی الوحید فی البلد بإنقاذ بریطانیا من أن یتم إسقاطها بأن استحوذوا على السلطة «سلمیًا» واحتکروها فی أوساطهم – وکان ذلک على حساب ترک الانتفاضة الطبقیّة تحترق بنیران الطائفیّة.
کان بالإمکان تشکیل تحالفات مختلفة للقوى الطبقیّة، وذلک بحکم أن أغلب الطبقات عارضت الحکم البریطانی. وکان من الممکن لحرکة الاستقلال أن تنتج نتیجة مختلفة لو تمکّن عمّال المصانع والطبقة الکادحة الزراعیة من تکوین حزبٍ اشتراکیّ ثوری – وجذبوا الطبقة الوسطى والمزارعین من أصحاب الأراضی الصغیر خلف قیادتهم للنضال الطبقی. عِوضًا عن ذلک، قام حزب غاندی بقلب هذه العلاقات، إذ کانت البورجوازیة فی القیادة مع الطبقات الوسطى من القرى والمدن.
کانت حیاة غاندی أطول تجربة فی العمل السیاسی اللا عنفی فی التاریخ، ونتیجة التجربة واضحة جدًا: لا یمکن هدم بناءٍ طبقیّ استغلالی بدون استخدام العنف أثناء هذه العملیّة. لم یحصل أبدًا أن خضعت المُلکیّة الخاصة – محّصنةً بعنف الدولة – لضغطٍ سلمیّ من قِبل الطبقة المُستغلـَّة. بعبارة أخرى، لم تنزل الطبقة المستغلـِّة من على مسرح التاریخ دون أن تُرکل.
ولکنّ القوّة الأخلاقیّة – واقعًا – ضروریّة لترابط حتى الحرکات الاشتراکیّة. فی بعض الجوانب، یجب على أسالیبنا حقًا أن تبشّر بمجتمعٍ أکثر إنسانیّة من المجتمع الحالی. هذه الأمثلة الثلاثة، ألا وهی القصف البِساطی (carpet bombing) الموجّه على الأهداف المدنیّة، رشّ ألاف الأسلحة المضادّة للأفراد على مزارع الأرز، أو التسبب بمجاعة عن طریق حصارٍ على سکّان بلدٍ بأکمله کانت تکتیکاتٍ امتازت بها الحروب البورجوازیة. حقًا، هذه التکتیکات هی أحد الأسباب التی تدفعنا لإسقاط النظام البورجوازی. وبالمقابل عکسیًا، یصعب أن نتصور استخدامها کخیارات تکتیکیة فی حرکة تهدف لتحریر عامّة الناس.
ولکنّ القوة الأخلاقیة لن تتمکّن من تربح فی نضالٍ ضدّ طبقةٍ مصالِحُها معادیة بطبیعتها لمصالحنا. یجب أن یکون العُنف جزءًا من ترسانة الحراک. وفی مجتمعٍ مبنی على عداءٍ طبقیٍّ عنیف، لا یمکن لهدفنا السیاسی أن یکون کهدف غاندی: ألا وهو استرضاء المجتمع بأکمله. یجب علینا عوضًا عن ذلک أن نتعلّم کیف نرسم خطوط المعرکة الصحیحة.
مصادر:
https://www.sasapost.com/noviolenceghandi/
http://www.un.org/arabic/news/story.asp?NewsID=29551#.WdRiw1uCzyE
http://www.un.org/ar/events/nonviolenceday/