الهروب حفاة من الموصل: الطریق الطویل إلى بر الأمان

رمز المدونة : #1990
تاریخ النشر : سه شنبه, 8 فروردین 1396 11:28
یسیر طابور هزیل قاتم اللون فی خط متعرج عبر التلال الجرداء فی ضواحی غرب الموصل، ویخترق سحب الغبار الناجمة عن انفجار قذائف الهاون المتساقطة من حوله. وبعیون فاغرة یکسوها الخوف وسط وجوه هزیلة جراء أشهر من سوء التغذیة، یترنح البعض من الإرهاق أو یعرجون وهم یرتدون صنادل بلاستیکیة ممزقة. ویسیر آخرون حفاة الأقدام. وتحمل نساء عدیدات الأطفال الصغار، بینما یظهر على أخریات الحمل فی شهوره الأخیرة. ویتم دفع عربات صدئة أو بدائیة تحمل الأجداد کبار السن عبر التضاریس الوعرة.

 

هؤلاء هم النازحون الیائسون الذین یفرون الآن من غرب الموصل، بینما یحارب الجیش العراقی ما یسمى بتنظیم الدولة الإسلامیة فی آخر معاقل الجماعة فی العراق.

وبعد ما یقرب من ثلاث سنوات من الرعب تحت حکم تنظیم الدولة الإسلامیة، وأربعة أشهر من العیش على حافة المجاعة منذ بدء معرکة الموصل، وثلاثة أسابیع من القتال العنیف الذی مکّن الجیش العراقی وحلفائه من التوغل فی غرب الموصل، أصبح الوضع الإنسانی داخل المدینة وخیماً لدرجة أن الأسر لم یعد لدیها خیار یُذکر سوى تعریض حیاتهم للخطر والسیر عبر الخطوط الأمامیة للصراع لمجرد محاولة البقاء على قید الحیاة.

 

 

انظروا إلینا. نحن شعب مدمر،" کما یقول محمد البالغ من العمر 67 عاماً وهو یستریح على الرمال مع أسرته. بعد تسع ساعات من السیر على الأقدام، لم تعد زوجته المریضة قادرة على الاستمرار، على الرغم من أنهم لا یزالون فی مرمى قذائف الهاون التی یطلقها تنظیم الدولة الإسلامیة. ولا زال أمامهم نصف کیلومتر آخر ینبغی قطعه سیراً على الأقدام للوصول إلى الأمان النسبی عند نقطة تفتیش تابعة للجیش العراقی فی جنوب غرب الموصل.

"لم یکن لدینا سوى الخبز والماء فقط لمدة أربعة أشهر، وقد أصبحنا ضعافاً للغایة،" کما أوضحت ابنته نادیة، وهی تحتضن طفلها الأصغر، البالغ من العمر شهرین فقط. وأضافت أن العیش على مثل هذا النظام الغذائی السیء قد جعلها غیر قادرة على إرضاع طفلها: "لم یکن لدی شیء أستطیع منحه لطفلی سوى الماء، وکنت أبکی کل یوم خوفاً من أن توافیه المنیة".

 

الخوف

وتبین حقیقة أن السکان مستعدون للمخاطرة بقطع هذه الرحلة الغادرة من أجل الفرار من سیطرة تنظیم الدولة الإسلامیة فی غرب الموصل مدى سوء التی تعانی من نقص شدید فی الغذاء والماء والدواء. وکان تنظیم الدولة الإسلامیة یمنع السکان من مغادرة المدینة منذ عدة أشهر، وکان الأشخاص الذین یُضبطون أثناء محاولة الهرب یُعاقبون بقسوة أو یُعدمون على رؤوس الأشهاد.

وقال محمد، الذی یشعر بالرعب من احتمال القبض علیه أو إعدامه، أن أسرته قد أجلت الرحلة حتى أصبح القتال الدائر من حولهم شدید الکثافة. وأضاف قائلاً: "کنا مختبئین داخل مدرسة ثم بدأت عملیة [عسکریة] کبیرة وکانت قذائف الهاون تتساقط فی کل مکان، على العدید من المنازل. تعرض منزل ابن عمی للقصف أثناء غارة جویة وانهار - ولا تزال جثث أسرته هناک تحت المبنى - فأدرکنا أن خیاراتنا الوحیدة هی مواجهة خطر الموت أثناء محاولة الهرب، أو البقاء والموت جوعاً، أو التعرض للقتل خلال الحرب".

"إنهم یقتلون عائلات الذین یتم القبض علیهم أثناء الفرار،" کما همست شیماء، وهی هاربة أخرى تبلغ من العمر 22 عاماً، مضیفة أن "إحدى الأسر حاولت الفرار قبل بضعة أیام - رجل وزوجته - ورأیت مقاتلی تنظیم الدولة الإسلامیة یطلقون النار علیهما". کانت تتحدث من مرکز التسجیل ونقطة فحص النازحین من غرب الموصل، التی تقع فی حی العقرب على الطریق الرئیسی بین بغداد والموصل، ووصفت اقتحام مسلحین لقریتها منذ أربعة أشهر، الأمر الذی أجبر جمیع سکانها على الانتقال إلى المدینة.

"لقد أرغمونا على الذهاب الى الموصل تحت تهدید السلاح والإقامة فی منازل خالیة حتى یتمکنوا من استخدامنا کدروع بشریة عندما بدأ القتال. وفی هذه الأشهر الأربعة، شهدنا أسوأ أشیاء یمکن أن یراها أی إنسان فی حیاته کلها. لا أتمنى أن یحدث هذا لأی شخص،" کما أشارت شیماء.

 

 

الرحلة

والجدیر بالذکر أنهم رحلوا فی ساعة مبکرة من الصباح فی محاولة لتجاوز مقاتلی تنظیم الدولة الإسلامیة دون أن یلحظهم أحد، وساروا على الأقدام من جنوب غرب الموصل طلباً للحریة، عبر الخطوط الأمامیة. وتقطع معظم الأسر هذه الرحلة فی 12 ساعة تقریباً. وتقول القوات الخاصة العراقیة التی تحرس نقطة تفتیش فی ضواحی جنوب غرب الموصل أن عدة آلاف من النازحین یصلون کل صباح: وبحسب تقدیرات الأمم المتحدة، یفر نحو 4,000 شخص یومیاً فی المتوسط.

"کان هناک أکثر من 1,000 هذا الصباح حتى قبل السابعة صباحاً، وکان الطریق مغطى باللون الأسود نظراً لاکتظاظه بالأجساد، لأن الشاحنات لم تأت إلا فی وقت لاحق،" کما أوضح علی، وهو جندی من القوات الخاصة.

وتجدر الإشارة إلى أن علی یساعد الأطفال حفاة الأقدام على قطع المسار الذی کان مترباً ولکنه أصبح الآن مکسواً بالطین بعد سقوط الأمطار لمدة یومین. کانت ملابس الوافدین الجدد مبتلة واصطکت أسنانهم من شدة البرد وهم یدخلون شاحنات الجیش ویقبلون بامتنان المیاه والخبز والبسکویت الذی یوزعه المتطوعون الذین یدعمون الحشد الشعبی، وهی مجموعة من المقاتلین المتحالفین مع الجیش العراقی.

"لم یکن هناک أی طعام إلا الخبز لعدة أشهر فأصبح أولادی نحیلی الجسد وأصابهم المرض،" کما أفاد یونس البالغ من العمر 36 عاماً، مشیراً إلى طفلیه التوأمین اللذین کانا یرتعدان خوفاً فی زاویة من الشاحنة. وأضاف قائلاً: "استغرقت رحلتنا أکثر من تسع ساعات للوصول إلى هنا. کان السیر محتملاً بالنسبة لی، ولکنه کان صعباً جداً على أطفالی، وظلت أحذیتهم تسقط وتلتصق بالوحل".

غادرت زوجة یونس بشکل منفصل فی نفس اللیلة، مع طفلیهما الثالث والتوأمین الأصغر سناً، حتى لا یتم القبض علیهم ومعاقبتهم جمیعاً. وفی الیوم السابق، شاهدوا برعب مقاتلی تنظیم الدول الإسلامیة وهم یعتقلون رجلاً حاول الهرب، ویقطعون ذراعه عند العضد.

ولا یعرف یونس ما إذا کانت زوجته وأطفاله الصغار قد نجحوا فی الخروج أم لا، ویأمل فی العثور علیهم لاحقاً داخل المخیم الذی یتجهون إلیه.

"کنا نرید الفرار منذ فترة طویلة، ولکننا اضطررنا للبقاء لرعایة والدی الذی کان یعانی من السرطان،" کما أوضح. کانت الحقن التی یحتاج إلیها والده للعلاج تکلف 180 دولاراً لکل حقنة قبل نفاد الإمدادات بالکامل. ثم توفی والده قبل 10 أیام وبدأت الأسرة على الفور تخطط للهروب.

"کنت خائفاً جداً على أولادی وخشیت أن یحدث لهم شیء هناک أو خلال الهروب، لکننا لم نستطع البقاء لفترة أطول لأننا کنا معرضین لخطر الموت جوعاً أو لما هو أسوأ. ولمدة شهر تقریباً، لم تکن لدینا کهرباء أو وقود. ولم یکن لدینا ماء لأکثر من أسبوعین،" کما أفاد یونس.

 

المخیمات

 

وفی تصریح لشبکة الأنباء الإنسانیة (إیرین)، قال مسؤول فی مفوضیة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئین أن أکثر من 50,000 شخص قد فروا حتى الآن من القطاع الغربی من الموصل، لکن هذا العدد أقل بکثیر من التقدیر الأصلی البالغ 700,000 مدنی فی غرب الموصل. وذکرت منظمة إنسانیة واحدة على الأقل أن عدد المدنیین الذین لا یزالون داخل المدینة یبلغ حوالی 400,000 شخص.

ومن نقطة التفتیش، یسیر النازحون أو تنقلهم شاحنات إلى مرکز فحص فی العراء، حیث یتم فحص بطاقات الهویة ومقارنتها بقاعدة بیانات خاصة بالجیش العراقی تضم الآلاف من أسماء أفراد وأتباع تنظیم الدولة الإسلامیة المشتبه بهم. وفی معظم الأیام، یتم القبض على حفنة من الأشخاص، عادة من الرجال.

 

وبعد انتهاء هذا الفحص الأولی، یتم نقل الأسر النازحة إلى مخیمات أُقیمت قبل بدء الهجوم على غرب الموصل، لکی یتم تسجیل أفرادها وإخضاعهم للمزید من إجراءات الفحص. وهذه العملیة محفوفة بالمخاطر منذ بدء القتال ضد تنظیم الدولة الإسلامیة - انتشرت مزاعم بوجود انتهاکات خطیرة فی الماضی - وقالت الأمم المتحدة أن أفراد الأسرة أحیاناً لا یتم إبلاغهم بمکان أقاربهم الذکور.

وفی غضون أسبوع من افتتاحه، امتلأ مخیم حمام العلیل، وهو أقرب مخیم بُنی خصیصاً لهذا الغرض ومصمم لاستیعاب 22,000 شخص، عن أخره. لکن قائد الفریق العسکری المسؤول عن الأمن فی المخیم، والذی ذکر أن اسمه اللواء بشار، یؤکد "إننا کنا على استعداد لاستقبال جمیع هؤلاء الناس".

"حتى أثناء حدیثنا هذا، نقوم ببناء مخیم إضافی یتسع لـ1,000 شخص آخر، ولدینا خطط لبناء منطقة ثالثة لاستیعاب 5,000 شخص،" کما أفاد.

ولکن حتى تقدیره المتحفظ بوصول 3,000 وافد جدید یومیاً - 1,000 أقل من تقدیر الأمم المتحدة - لا یمکن بناء المخیمات الجدیدة بسرعة کافیة.

"لقد شهدنا ارتفاعاً کبیراً فی عدد الأسر النازحة من الموصل الأسبوع الماضی. نرى نحو 4,000 فی المتوسط یرحلون کل یوم،" کما قالت المتحدثة باسم المفوضیة کارولین غلاک.

وأضافت غلاک أن "المنظمات الإنسانیة تعمل على مدار الساعة لمساعدة الأسر الیائسة والمصابة بالصدمة التی تغادر غرب الموصل. ویعمل موظفو المفوضیة والشرکاء طوال الوقت، بما فی ذلک خلال عطلة نهایة الأسبوع، للتأکد من تسریع عملیات التوزیع واستمرار بناء مواقع جدیدة - على الرغم من أن الأمطار الغزیرة والوحل الذی استمر لمدة یومین قد منع تنفیذ الکثیر من أعمال البناء".

وواجهت جهود المفوضیة لفتح مخیمات جدیدة صعوبات فی إیجاد أرض مناسبة لهؤلاء، إما لأسباب طبوغرافیة، أو إمکانیة الوصول إلى مصادر میاه، أو بسبب ملکیة الأراضی المتنازع علیها.

وحتى تصبح هذه المخیمات والخیام الجدیدة جاهزة، قال اللواء بشار أن حافلات ستنقل النازحین إلى مخیمات فی شرق الموصل، التی بدأ بعض ساکنیها فی العودة إلى منازلهم فی المناطق المحررة من المدینة.

ومهما کانت أماکن الإقامة المتواضعة التی تننتظر آلاف النازحین من غرب الموصل، فإن معظمهم شاکرین لمجرد الحفاظ على حیاتهم وحریتهم.

"لا أستطیع أن أصدق أننا وصلنا إلى هنا الیوم. لا زلت غیر مصدق،"کما أفاد یونس، الذی لا یزال ینظر إلى النازحین الهابطین من فوق التلال بحثاً عن زوجته. "لقد انتظرنا لوقت طویل حتى نجحنا فی الخروج. إن الوضع هناک فظیع، ولا تزال هناک أعداد کبیرة من الناس فی الداخل. لا یستطیع کبار السن قطع هذه المسافة سیراً على الأقدام وهم عالقون هناک، وجوعى، بینما تتساقط قذائف الهاون فی کل مکان،" کما أضاف والدموع تنهمر على وجهه.

وقام متطوع من الحشد الشعبی بمسح دموع یونس بإبهامه وأشعل له سیجارة. وقال یونس وهو یستنشق دخان السیجارة بعمق: "نحمد الله على أننا هنا، على قید الحیاة، الیوم".

 

مصدر:ایرین