حدیث حول "اللطف والسخاء"
حدیث حول "اللطف والسخاء"
ونیلسون ماندیلا، الذی توفی فی سن الخامسة والتسعین، قضى 27 سنة فی السجن فی جنوب أفریقیا لإدانته والحکم علیه مع سبعة أشخاص آخرین بالسجن مدى الحیاة. وقد رفض عروض الإفراج المبکر عنه لأنها کانت دائماً مصحوبة بشروط. وفی عام 1990، عندما خرج فی النهایة من أبواب سجن بولسمور وأصبح رجلاً حراً، تناولت البی بی سی بالوصف الرقص فی الشوارع فی جمیع أنحاء البلد وأفادت بأن 000 50 شخص تجمعوا أمام مبنى البلدیة فی کیب تاون للاستماع إلیه وهو یتکلم.
وهو زمیل من جنوب أفریقیا، نشأ أیضاً فی عصر الفصل العنصری، تقول نافی بیلای وهی تشیر إلى فلک الوقت: "عندما خرج من السجن کانت المشاعر عارمة ملیئة بالکراهیة والتمییز والرغبة فی الانتقام ولکنه استبعد کل هذا بکلمات بسیطة فهمها الناس: القوا رماحکم وبنادقکم فی البحر، لن یتکرر أبداً وجود عنصریة لدینا فی هذا البلد. لم یکن هناک انتقام – توفیر حقوق الإنسان للجمیع، واحترام جمیع الحریات الأساسیة. کانت هذه رسالته."
وکان عمر ماندیلا 71 سنة عندما أُطلق سراحه، وظل ثابتاً فی تصمیمه على إنهاء نظام الفصل العنصری. "أحییکم جمیعاً باسم السلام والدیمقراطیة والحریة للجمیع، قال ماندیلا فی کلمته لمؤیدیه. وشکر جمیع الذین شنوا حملة لإطلاق سراحه فی جنوب أفریقیا وخارجها على السواء "وقال "أضع السنوات المتبقیة من عمری بین أیدیکم."
حیاة غیر عادیة
کانت حیاة مانیلا غیر عادیة. رولیهلاهلا دالیبهونغا – ماندیلا اسمه الإنکلیزی الذی أعطاه له مدرس _ درس القانون فی جامعة Afrikaner Witswaterand University، وانضم إلى المؤتمر الوطنی الأفریقی، وبدأ فی وقت مبکر جداً الدعوة إلى الإصلاح السیاسی والاجتماعی.
وفی عام 1952، أنشأ مکتب محاماة مع أولیفر تامبو، الرجل الذی تولى قیادة المؤتمر الوطنی الأفریقی، ودعا الاثنان معاً إلى التغییر. ومع تفاقم العلاقات بین عتاة عنصریی النظام البیض والأغلبیة السوداء، أصبحت الممارسة المستخدمة لتنفیذ الفصل العنصری أشد قسوة.
وجرى حظر المؤتمر الوطنی الأفریقی بحکم القانون فی عام 1960، فی أعقاب إطلاق الرصاص على أکثر من 60 شخصاً کانوا یحتجون خارج قسم شرطة شاربفیل على قوانین تصاریح المرور التی تصدرها الدولة. وقد منعت تصاریح المرور فعلیاً الاختلاط بین السود والبیض وقیدت بشدة حرکة غیر البیض.
وکانت مذبحة شاربفیل، کما أصبحت تُعرف، لحظة حاسمة فی النضال ضد الفصل العنصری، أنهت المقاومة السلمیة وأفضت بقیادة المؤتمر الوطنی الأفریقی إلى اتخاذ قرارها باللجوء إلى ’ التخریب‘ لتحقیق التغییر.
وقد أُلقی القبض على ماندیلا فی عام 1962 وحکم علیه بالسجن خمس سنوات لمغادرته البلد على نحو غیر مشروع وتحریض العمال على الإضراب. ومن ناحیة ثانیة، وجهت الحکومة إلیه فی عام 1963 تهماُ أخرى إلیه، انطوت على احتمال صدور حکم بالإعدام: التخریب والخیانة العظمى والتآمر لقلب نظام الحکم.
وکلمته من قفص الاتهام عند بدء محاکمته فی عام 1964 من أشهر الکلمات التی ألقاها. فقد وصف ماندیلا ما کان المؤتمر الوطنی الأفریقی یکافح من أجله بأنه "نضال من أجل الحق فی الحیاة"، ثم حدد ماندیلا دوره: "خلال حیاتی، کرست نفسی لهذا النضال الخاص بالشعب الأفریقی. لقد کافحت ضد هیمنة البیض وکافحت ضد هیمنة السود. وتمسکت بالمثل الأعلى لمجتمع دیمقراطی وحر یعیش فیه الجمیع معاً فی وئام وعلى أساس تکافؤ الفرص. إنه مثل أعلى آمل أن أحیا من أجله ولتحقیقه. ولکنه، إذا استدعى الأمر، مثل أعلى أنا مستعد للموت فی سبیله."
وقد حُکم على ماندیلا بالسجن مدى الحیاة، بید أن المؤتمر الوطنی الأفریقی، على الرغم من أن ماندیلا لم یکن من الممکن رؤیته أو الاستماع إلیه، رکز حملته ضد العنصریة علیه وطالب بإطلاق سراحه. واستجاب المجتمع الدولی، وفرض عقوبات على نظام جنوب أفریقیا، الذی رضخ للضغط فی نهایة المطاف. وأطلق سراح ماندیلا الرئیس ف. و. دی کلیرک الذی رفع الحظر المفروض على المؤتمر الوطنی الأفریقی وبدأ عملیة إقامة دیمقراطیة متعددة الأعراق.
وبعد ذلک مُنح ماندیلا جائزة نوبل للسلام، وفی عام 1994 أصبح أول رئیس أسود لجنوب أفریقیا.
وکرئیس، دعم ماندیلا المثل العلیا والمبادئ التی أعلنها أثناء محاکمته وسجنه وواصل إقامة الجسور عبر الانقسام العرقی. وقد ارتکز فی النضال ضد الفصل العنصری على الإعلان العالمی لحقوق الإنسان وکرس الحریة عند تحقیقها لتنفیذ الإعلان.
وأشرف ماندیلا على تحویل جنوب أفریقیا من دولة فصل عنصری تخدم مصالح أقلیة إلى دولة تلبی احتیاجات جمیع المواطنین دون تمییز وبدأ العملیة التدریجیة لبناء أمة قوس قزح حقاً. وسلم بالأهمیة الحاسمة لوجود قضاء مستقل باعتباره دعامة للدیمقراطیة وشدد على أن مستقبل دیمقراطیة جنوب أفریقیا یتوقف على المحکمة الدستوریة المنشأة حدیثاً.
وتشیر بیلای إلى أن ماندیلا عزز بنشاط حقوق المرأة. وقد کانت امرأة أول المتحدثین فی البرلمان المتعدد الأعراق. وبیلای نفسها اختارها ماندیلا وعینها کأول امرأة غیر بیضاء فی المحکمة العلیا فی جنوب أفریقیا. وتقول المفوضة السامیة إنها تشعر بابتهاج شدید عندما تتذکر هذا وتفکر فی ماندیلا باعتباره شخصاً عزز حقوق المرأة. "یتعین أن تدرک أنه، فی ذلک الوقت، کانت هناک مقاومة شدیدة للتعیینات من هذا النوع وکان کثیرون یقولون إن السود غیر جاهزین لهذه المسؤولیات،" تقول بیلای.
وفی عام 2009، اتخذت الأمم المتحدة الخطوة غیر المسبوقة المتمثلة فی تحدید یوم دولی للاحتفال بإنجازات نیلسون ماندیلا ومکانته العالمیة. والقرار، الذی یوافق على أن یکون هذا الیوم 18 تموز/یولیه، یوم مولد ماندیلا، یعرب عن التقدیر لإسهامه البارز فی إقامة جنوب أفریقیا دولة دیمقراطیة دون تمییز عنصری أو جنسی. ویذکر القرار القیم التی آمن بها ماندیلا وتفانیه فی خدمة البشریة ویصف إسهامه فی الکفاح من أجل الدیمقراطیة على الصعید الدولی وفی الترویج لثقافة السلام فی شتى أرجاء العالم.
وقد أمضى مادیبا، وهو الاسم الذی یطلقه علیه أبناء وطنه وأصدقاؤها تحبّبًا، معظم حیاته یقاوم الفصل العنصریّ ویطالب ببلد یحکمه الإدماج والطیبة والتسامح.
لم تحبط السنوات الـ27 التی أمضاها فی العزل مسجونًا، من عزیمته ولم تثنه عن هدفه. وفی العام 1990، رحّب بإطلاق سراحه من دون أیّ مرارة ولم یسعَ إلى الانتقام من ساجنیه، لا بل لعب دورًا حاسمًا فی توحید شعبه ضمن أمّة متنوّع تنوّع ألوان قوس القزح، وقد ألهمت فلسفته الجماهیر فی العالم أجمع.
ودُعِی مؤخّرًا مفوّض الأمم المتّحدة لحقوق الإنسان زید، إلى المشارکة فی المحادثة التی جرت على هامش انعقاد مجلس حقوق الإنسان احتفالاً بمئویّة مندیلا وإرثه، فأشار قائلاً: "هو من بین أعظم قادة حقوق الإنسان فی عصرنا."ش
وانضمّت ماری روبنسن، مفوّضة الأمم المتّحدة السامیّة السابقة لحقوق الإنسان وصدیقة مندیلا المقرّبة إلى زید. وأوضح زید أنّ روبنسن عملت مع مندیلا، منذ حوالى الـ20 عامًا، على إعلان بارز بشأن التسامح والتنوّع یتمتّع برؤیة ممیّزة، قبل أشهر على عقدهما فی العام 2001 أوّل مؤتمر مناهض للتمییز العنصریّ فی دربن فی جنوب إفریقیا.
وأعلن زید قائلاً: "یتسبب الظلم القائم على التحیّز العنصریّ وغیره من أشکال التعصّب حول العالم بإهانة الملایین من الأشخاص ویعرّضهم إلى الخطر. ویغذّی قادة الرأیّ التعصب عن قصد بهدف تعزیز مطامحهم الشخصیّة."
وأضاف: "هناک العدید من العِبَر التی یمکننا جمیعنا أن نستخلصها من حیاة نیلسون مندیلا [...] ولکن من بین الأمور التی أثبتها هو أنّ الوقت دائمًا مناسب کی نقوم بما هو صحیح."
وکرّرت ماری ربنسون رأی زید إذ أشارت إلى أنّ ماندیلا غیّر سیر تاریخ العالم أجمع. وروبنسن وماندیلا من أوّل أعضاء مجلس الحکماء الذی یضمّ حکماء عالمیّین بارزین استغلّوا خبرتهم الجماعیّة من أجل المساهمة فی معالجة قضایا طارئة عالمیّة.
کما کرّرت روبنسون کلمات ذکرها ماندیلا وأکّدت أنّها تقدم عبرًا قیّمة لعالم الیوم الذی یزداد تناقضًا وعدائیّة.
وأضافت أنّ إرث دوربن یذکّر من یکافح التمییز العنصریّ "أنّه علینا أن نرفع الصوت عند مواجهة التحیّز بکلّ أشکاله على أساس مبدأ "اللطف والسخاء الذی جسّده مادیبا."
کما عبّرت روبنسون عن قلقها حیال بروز خطابات الکراهیة المتفشیّة إلکترونیًّا، فأشارت: "لمواجهة هؤلاء العنصریّن وکارهی النساء والقومیّین والمتطرّفین، علینا أن نؤکّد على قیم نیلسون ماندیلا جهارًا وبکلّ ما أوتینا من قوّة فی کافة المنتدیات الإلکترونیّة وغیر الإلکترونیّة."
أمّا وزیر العلاقات الخارجیّة فی أنغولا مانویل دومنغو أوغوستو، فأشار من جهته إلى أنّه کان من أوّل المسؤولین الإفریقیّین الذین تشرّفوا بالعمل مع نیلسون مندیلا. ففی العام 1992، اختارت الأمم المتحدة أنغولا لمساندة جنوب إفریقیا فی عملیّة انتقالها بعیدًا عن نظام الفصل العنصریّ.
وأشار أوغوستو إلى أن رؤیة مندیلا کانت متجذّرة فی مبدأ "Ubuntu" (أوبونتو)، وهو مبدأ معروف جدًّا فی أفریقیا ینطوی على حسّ بواجب دعم بعضنا البعض، ویمکن ترجمته بعبارة "أنا ما هو علیه لأنّنا جمیعنا ما نحن علیه."
وأضاف قائلاً: "لا یقوّض التسامح مکانتنا الأخلاقیّة بل یعزّزها. فقبول [مندیلا] التنوّع یعطینا درسًا عمیقًا، مفاده أنّه مع تحرّر الأفریقیّین تحرّر الظالمون أیضًا. ویحمل هذا الدرس الکثیر من المعانیّ لکّل مناطق العالم التی تشهد نزاعات ومعاناة إنسانیّة."